سورة سبأ - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {وقد صدق عليهم إبليسُ ظَنَّه} الضمير في {عليهم} لكفار سبأ وغيرهم. وكأن إبليسَ أضمر في نفسه حين أقسم: {لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] أنه يسلط عليهم، وظن أنه يتمكن منهم، فلما أغواهم وكفروا صدق ظنه فيهم. فمَن قرأ بالتخفيف ف {ظنه}: ظرف، أي: صَدق في ظنه. ومَن قرأ بالتشديد فظنه مفعول به، أي: وجد ظنه صادقاً عليهم حين كفروا {فاتَّبَعوه} أي: أهل سبأ ومَن دان دينهم، {إِلا فريقاً من المؤمنين} قللهم بالإضافة إلى الكفار، قال تعالى: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] وفي الحديث: «ما أنتم في أهل الشرك إلا كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود».
{وما كان له عليهم من سلطانٍ} أي: ما كان لإبليس على مَن صدق ظنه عليهم من تسلُّط واستيلاء بالوسوسة، {إِلا لِنَعْلَم} موجوداً ما علمناه معدوماً {من يؤمنُ بالآخرةِ ممن هو منها في شكٍّ} أي: إِلا ليتعلق علمنا بذلك تعلُّقاً تنجيزيًّا، يترتب عليه الجزاء، أو: ليتميز المؤمن من الشاك، أو: ليؤمن مَن قُدّر إيمانُه، ويشك من قُدر ضلالُه. {وربك على كل شيءٍ حفيظٌ} محافظ رقيب، وفعيل ومفاعل أخوان.
الإشارة: كل مَن لم يصل إلى حضرة العيان صدق عليه بعض ظن الشيطان؛ لأنه لما رأى بشرية آدم مجوفة، ظن أنه يجري معه مجرى الدم، فكل مَن لم يسد مجاريه بذكر الله، حتى يستولي الذكر على بشريته، فيصير قطعة من نور، فلا بد أن يدخل معه بعض وساوسه، ولا يزال يتسلّط على قلب ابن آدم، حتى يدخل حضرة القدس، فحينئذ يحرس منه، لقوله تعالى: {إِنَّ عَبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. وعباده الحقيقيون هم الذين تحرّروا مما سواه، فلم يبقَ لهم في هذا العالم علقة، وهم المرادون بقوله تعالى: {إِلا فريقاً من المؤمنين} وما سلَّطه عليهم إلا ليتميز الخواص من العوام، فلولا ميادين النفوس، ومجاهدة إبليس، ما تحقق سير السائرين، أي: وما كان له عليهم من تسلُّط إلا لنعلم علم ظهور مَن يؤمن بالخصلة الآخرة، وهي الشهود، ممن هو منها في شك، {وربك على كل شيء حفيظ} يحفظ قلوب أوليائه من استيلاء غيره عليها. وبالله التوفيق.


قلت: حذف مفعولي زعم، أي: زعمتموهم آلهة تعبدونهم من دون الله، بدلالة السياق عليهما.
يقول الحق جلّ جلاله: {قُلْ} لهم {ادعوا الذين زعمتم من دون الله} أي: زعمتموهم آلهة، فعبدتموهم من دون الله، من الأصنام والملائكة، وسميتموهم باسْمِهِ، فالتجئوا إليهم فيما يعروكم، كما تلتجئون إليه في اقتحام الشدائد الكبرى. وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته. وهذا تعجيز وإقامة حجة على بطلان عبادتها. ويُروى أنها نزلت عند الجوع الذي أصاب قريشاً. ثم ذكر عجزهم فقال: {لا يملكون مثقال ذرةٍ} من خير أو شر، ونفع أو ضر {في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شِرْكٍ} أي: وما لهم في هذين العالَمين؛ العلوي والسفلي، من شرك في الخلق، ولا في المُلك، {وما له} تعالى {منهم} من آلهتهم {من ظهيرٍ} معين يعينه على تدبير خلقه. يريد أنه على هذه الصفة من العجز، فكيف يصحُّ أن يُدْعَوا كما يدعى تعالى، أو يُرْجَوا كما يُرجى سبحانه؟
ثم أبطل قولهم: {هَؤُلآَءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18] بقوله: {ولا تنفعُ الشفاعةُ عنده إِلا لمن أَذِنَ له} تعالى في الشفاعة، ممن له جاه عنده، كالأنبياء، والملائكة، والأولياء، والعلماء الأتقياء، وغيرهم ممن له مزية عند الله. وقرأ أبو عمرو والأخوان بالبناء للمفعول، أي: إلا مَن وقع الإذن للشفيع لأجله. ثم ردّ على مَن زعم من الكفار أن الملائكة تشفع، قطعاً؛ لمكانها من الله، فقال: {حتى إِذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق} فحتى: غاية لمحذوف، أي: وكيف تشفع قبل الإذن، وهي في غاية الخوف والهيبة من الله، إذا سمعوا الوحي صعقوا، {حتى إِذا فُزِّع عن قلوبهم} أي: كشف الفزع عن قلوبهم {قالوا ماذا قال ربكم} من الوحي؟ {قالوا الحقَّ} فمَن كان هذا وصفه لا يجترىء على الشفعاعة إلا بإذن خاص. قال الكواشي: إنه يفزع عن قلوبهم حين سمعوا كلام الله لجبريل بالوحي، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر لأهل السماء أخذت السماوات منه رَجْفةٌ أو قال: رَعْدَةٌ شديدةٌ خوفاً من ذلك، فإذا سمع أهل السماوات صَعِقُوا، وخَرُّوا سُجداً، فيكون أول مَن يرفع رأسه جبريل، فيُكلمه من وَحْيِه بما أراد، ثم يَمُرُّ على سماءٍ سماء، إلى أن ينزل بالوحي، فإذا مَرَّ على الملائكة سألوه، ثم قالوا: ماذا قال ربكم؟ فيقول جبريل: قال الحقَّ» نصب المفعول بقالوا، وجمع الضمير تعظيماً لله تعالى.
ثم قال: وفي الحديث: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة، كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، حتى يأتيهم جبريل، فيفزع عن قلوبهم أي: يكشف ويخبرهم الخبر»
ثم قال: وقيل المعنى: أنه لا يشفع أحد إلا بعد الإذن، ولا يشعر به إلا المقربون؛ لِما غشي عليهم من هول ذلك اليوم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم في الشفاعة؟ قالوا الحق، أي: أذن فيها. اهـ. ومثل هذا لابن عطية، وتبعه ابن جزي، قال: الضمير في {قلوبهم}، وفي {قالوا} للملائكة. فإن قيل: كيف ذلك، ولم يتقدم لهم ذكر؟ فالجواب: أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله: {وَلا تنفع الشفاعة عنده إلا لمَن أذن له} لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين، فعاد الضمير على الشفعاء، الذين دلَّ عليهم ذكر الشفاعة. اهـ.
وقرأ يعقوب وابن عامر {فَزع} بفتح الفاء بالبناء للفاعل. والتضعيف للسلب والإزالة، أي: سلب الفزع وأزاله عن قلوبهم، مِثل قردت البعير: إذا أزلت قراده، ومَن بناه للمفعول فالجار نائب. {وهو العليُّ الكبيرُ} أي: المتعالي عن سمة الحدوث، وإدراك العقول، الكبير الشأن، فلا يقدر أحد على شفاعة بلا إذنه.
الإشارة: كل مَن آثر شيئاً أو أحبّه سوى الله، أو خافه، يقال له: ادعوا الذين زعمتم أنهم ينفعونكم أو يضرونكم، من دون الله، {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض...} الآية. وأما محبة الأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء فهي محبة الله، لأنهم يُوصلون إليه، فلم يحبهم أحد إلا لأجل الله، فتنفع شفاعتهم بإذن الله. وقوله: {حتى إذا فُزع عن قلوبهم...} إلخ، قال الورتجبي: وصف سبحانه أهل الوجد، من الملائكة المقربين، وذلك من صولة الخطاب، فإذا سمعوا كلام الحق، من نفس العظمة، وقعوا في بحار هيبته وإجلاله، حتى فنوا تحت سلطان كبريائه، ولم يعرفوا معنى الخطاب في أول وارد السلطنة. فإذا فاقوا سألوا معنى الخطاب من جبريل عليه السلام، فهو من أهل الصحو والتمكين في المعرفة. اهـ.
ثم تتم قوله: {لا يملكون مثقالَ ذرةٍ} أي: لا من رزق ولا غيره.


يقول الحق جلّ جلاله: {قلْ} لهم: {من يرزقكم من السماوات والأرض} أي: بأسباب سماوية وأرضية؟ {قل اللهُ} وحده. أمره أن يقرّرهم، ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم، أي: يرزقكم الله لا غيره، وذلك للإشعار بأنهم مقرُّون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبَوا أن يتكلموا به، لأنهم إن تفوّهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون مَن يرزقكم، وتؤثرون عليه مَن لا يقدر على شيء؟
ثم أمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإحجاج: {وإِنا وإِياكم لعلى هُدىً أو في ضلالٍ مبين} أي: ما نحن وأنتم على حالة واحدة، بلى على حالين متضادين، واحدنا مهتد، وهو مَن اتضحت حجته، والآخر ضال، وهو مَن قامت عليه الحجة. ومعناه: أن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال. وهذا من كلام المنصف، الذي كل مَن سمعه، من مُوالٍ ومعاند، قال لمَن خوطب به: قد أنصفك صاحبك. وفي ذكره بعد تقديم ما قدّم من التقرير: دلالة واضحة على مَن هو من الفريقين على الهدى، ومَن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض أوصل بالمجادل إلى الغرض، ونحوه قولك لمَن تحقق كذبه: إن أحدنا لكاذب، ويحتمل أن يكون من تجاهل العارف.
قال الكواشي: وهذا من المعاريض، وقد ثبت أن مَن اتبع محمداً على الهدى، ومَن لم يتبعه على الضلال. ه ويحتمل أن يكون من اللف والنشر المرتّب. وفيه ضعف. وخولف بين حرفي الجار، الداخلين على الهدى والضلال؛ لأن صاحب الهدى كأنه مستعلٍ على فرس جواد، يركضُه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام، لا يدري أين يتوجّه.
{قل لا تُسألون عمّا أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون} أي: ليس القصد بدعائي إياكم خوفاً من ضرر كفركم، وإنما القصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، فلا يُسأل أحد عن عمل الآخر، وإنما يُسأل كل واحد عن عمله. وهذا أيضاً أدخل في الإنصاف، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم، وهو محظورٌ، والعمل إلى المخَاطبين، وهو مأمورٌ به مشكورٌ. {قل يجمع بيننا ربنا} يوم القيامة، {ثم يَفتحُ} أي: يحكم {بيننا بالحق} بلا جور ولا ميل، فيدخل المحقّين الجنة، والمبطلين النار، {وهو الفتاحُ} الحاكم {العليمُ} بما ينبغي أن يحكم به.
{قل أَرونيَ الذي ألحقتم} أي: ألحقتموهم {به شركاءَ} في العبادة معه، بأي صفة ألحقتموهم به شركاء في استحقاق العبادة، وهم أعجز شيء. قال القشيري: كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك؛ لانهماكهم في ضلالهم، مع تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تعقل، ولا تسمع ولا تبصر، ولا شبهة لهم غير تقليد أسلافهم. اهـ.
والمعنى قوله: {أَروني} مع كونه يراهم: أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يطلعهم على حالة الإشراك به، ولذلك زجرهم بقوله: {كلا} أي: ارتدعوا عن هذه المقالة الشنعاء، وتنبّهوا عن ضلالكم. {بل هو الله العزيزُ} أي: الغالب القاهر، فلا يشاركه أحد، وهو: ضمير الشأن، {الحكيمُ} في تدبيره وصنعه. والمعنى: بل الوحدانية لله وحده؛ لأن الكلام إنما وقع في الشركة، ولا نزاع في إثبات الله ووجوده، وإنما النزاع في وحدانيته. أي: بل هو الله وحده العزيز الحكيم.
الإشارة: أرزاق الأرواح والأشباح بيد الله، فأهل القلوب من أهل التجريد اشتغلوا بطلب أرزاق الأرواح، وغابوا عن طلب أرزاق الأشباح، مع كونهم مفتقرين إليه، أي: غابوا عن أسبابه. وأهل الظاهر اشتغلوا بطلب أرزاق الأشباح، وغابوا عن التوجُّه إلى أرزاق الأرواح، مع كونهم أحوج الناس إليه. وكل فريق يرجح ما هو فيه، فأهل الأسباب يعترضون على أهل التجريد، ويرجحون تعاطي الأسباب، وأهل التجريد يرجحون مقام التجريد، فيقولون لهم: وإنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبين. قل: لا تُسألون عما أجرمنا، بزعمكم، من ترك الأسباب، ولا نُسأل عما تعملون. وسيجمع الله بيننا، ويحكم بما هو الحق، فإن كنتم تعتمدون على الأسباب، وتركنون إليها، فهو شرك، أروني الذين ألحقتم به شركاء، كلا، بل هو الله العزيز الحكيم، يُعز أولياءه، المتوجهين إليه، الحكيم في إسقاط مَن أعرض عنه إلى غيره.
قال القشيري: {قل يجمع بيننا ربنا} أخبر سبحانه أنه يجمع بين عباده، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم، بغير ما يعاملهم في حال افتراقهم، وللاجتماع أثرٌ كبيرٌ في الشريعة، وللصلاة في الجماعة أثر مخصوص. ثم قال: وللشيوخ في الاجتماع زوائد، ويستروحون إلى هذه الآية: {قل يجمع بينا ربنا ثم يفتح...}. اهـ.
ولمَّا ذكر ما منّ به على داود وسليمان، وذكر وبال مَن لم يشكر النعم، ذكر ما منّ به على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من عموم الرسالة والدعوة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8